nefzawa.net

استراتيجيات ترشيد المياه في القطاع الفلاحي

تواجه تونس منذ عدة سنوات أزمة حقيقية في مجال الموارد المائية، تتفاقم عامًا بعد آخر. وقد بلغ مخزون المياه في السدود، وفق بيانات المرصد الوطني للفلاحة إلى حدود سبتمبر 2024، حوالي 22.3٪ فقط من طاقتها الإجمالية، أي ما يعادل 522 مليون متر مكعب، وهو ما يمثل تراجعًا بنسبة 13.5٪ مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي. هذه الأرقام تؤشر على وضع مائي مقلق، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن القطاع الفلاحي هو أكثر القطاعات استهلاكًا للمياه بنسبة تصل إلى 80٪ من إجمالي الموارد، ويشكل في الوقت ذاته ركيزة أساسية للاقتصاد الوطني من حيث مساهمته في الناتج المحلي وتشغيل اليد العاملة، لاسيما في المناطق الريفية.

أمام هذا الواقع، انطلقت وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري في تنفيذ خطة وطنية لترشيد استهلاك المياه في القطاع الفلاحي، ترتكز على تحسين أساليب الري واعتماد ممارسات وتقنيات جديدة أكثر كفاءة. تشمل هذه الخطة تعميم استخدام التجهيزات المقتصدة للمياه، مثل أنظمة الري بالتنقيط، إضافة إلى تجميع مياه الأمطار، وتطبيق برامج الصيانة الوقائية لشبكات الري، وحفر آبار جديدة. وتسعى هذه الإجراءات إلى ترسيخ ثقافة استهلاك رشيد للمياه لدى مختلف الفاعلين، مع التركيز على الجيل الجديد من الفلاحين، حيث إن تغيير السلوكيات الاستهلاكية يُعد من أكثر الحلول فاعلية وأقلها تكلفة مقارنة بخيارات أخرى كتحلية المياه أو إعادة معالجتها.

في إطار التوسع في الحلول المبتكرة، تعمل تونس على تطوير مشاريع لبناء سدود جديدة وتعزيز قدرة السدود القديمة، إلى جانب تحسين ظروف تخزين المياه عند توفرها وتقليل الفاقد الناتج عن التبخر أو التسرب، مع تنظيم الاستهلاك والحد من الضغط على الطلب. كما تمضي البلاد قدمًا نحو تنمية مصادر بديلة وغير تقليدية للمياه، من خلال اعتماد مشاريع لتحلية مياه البحر وإعادة استخدام المياه المعالجة في ري الأراضي الزراعية، وهي خطوات من شأنها دعم الأمن المائي وتقليل الكلفة البيئية والاقتصادية لإنتاج الغذاء.

وبالرغم من كل هذه الجهود، تبقى الإحصائيات مقلقة، حيث لا يتجاوز متوسط استهلاك المياه للفرد في تونس 450 متر مكعب سنويًا، مقارنة بمتوسط عالمي يصل إلى 1000 متر مكعب. ويُتوقع أن يستمر هذا المؤشر في الانخفاض إذا لم يتم اتخاذ خطوات أكثر فاعلية في المستقبل القريب. كما يُلاحظ أن قرابة 60٪ من الأراضي الزراعية في تونس ما تزال تعتمد على أنظمة ري تقليدية منخفضة الكفاءة، وهو ما يؤدي إلى هدر كميات كبيرة من المياه. في المقابل، فإن نسبة الأراضي المزودة بأنظمة ري حديثة لا تتجاوز 30٪، وهو ما يعوق تنفيذ أهداف ترشيد الموارد المائية.

من أجل تحسين استدامة الفلاحة، تعمل تونس على تعزيز استخدام تقنيات ري أكثر كفاءة، لا سيما أنظمة الري بالتنقيط، التي أظهرت قدرتها على تقليص استهلاك المياه بنسب معتبرة تصل إلى 30٪، مما يساهم في تحقيق التوازن بين الإنتاج والحفاظ على الموارد. وفي هذا الإطار، خصصت وزارة الفلاحة ميزانية تقدر بـ100 مليون دينار تونسي خلال سنة 2024، بهدف دعم الفلاحين وتمكينهم من الانتقال إلى تقنيات ري حديثة. كما تم إطلاق مشاريع استثمارية جديدة تهدف إلى تحديث البنية التحتية الفلاحية وتحسين أنظمة توزيع المياه، بالتوازي مع تنفيذ دراسات دقيقة لقياس احتياجات كل محصول، وبالتالي تقنين الكميات المستعملة بما يتلاءم مع نوعية التربة والمناخ والمحصول.

تتزامن هذه التحديات مع تغيرات مناخية عميقة تشهدها البلاد منذ بداية الألفية الثالثة، حيث سجل انخفاض في معدل الأمطار بنسبة تقارب 15٪، مما يزيد من تعقيد الوضع المائي ويؤثر سلبًا على الفلاحة والإنتاج الزراعي. وللتخفيف من آثار هذه الظاهرة، تعمل الدولة على تشجيع زراعة محاصيل أقل استهلاكًا للمياه وأكثر مقاومة للجفاف، إلى جانب تطوير أساليب تخزين المياه ومراقبتها بفعالية أكبر، وتحفيز الفلاحين على تبني ممارسات زراعية أكثر استدامة.

إن مواجهة أزمة المياه في القطاع الفلاحي في تونس لا يمكن أن تتم بمعزل عن تضافر جهود جميع الأطراف، من وزارات ومؤسسات حكومية، إلى الفلاحين، والمجتمع المدني، والقطاع الخاص. إن بناء مستقبل زراعي مستدام يتطلب وعيًا جماعيًا بأهمية المياه كعنصر نادر وثمين، واستعدادًا حقيقيًا للابتكار، والتكيف، وتغيير أنماط الإنتاج والاستهلاك، بما يضمن تأمين الغذاء للأجيال القادمة في ظل بيئة أكثر هشاشة وتحديات أشد تعقيدًا

Scroll to Top